د. عبدالرزاق المصباحي
يمكن الحديث في هذه الورقة، عن علاقة ممكنة بين الأدب والتواصل، بمعنيين اثنين :
أولهما
أن يؤدي النص الأدبي وظيفة تبليغ المعنى والدلالة على نحو مباشر، شأن أي
خطاب مفهومي آخر لا يحوز خاصية التكثيف الجمالي، لأن الحكم على جدواه
يرتبط في هذا المعنى بما يمكن أن يضمّنه مؤلفه " المرسل" من معرفة، وما
يكتنزه من قيم إيديولوجية وثقافية وسياسية.
ثانيهما أن يدخل في
سيرورات التلقي المنتجة القائمة على علاقة مركبة مع القارئ " المرسل
إليه": القارئ المتعدد الذي يمكن أن يكون المؤلف ذاته، أو الناقد المتخصص،
أو الجمهور الثقافي أو المستهلك الجمالي.
- الكاتب والالتزام: التواصل المقدس
ندعو
كاتبا أو مؤلفا ملتزما كل مبدع يتخذ من الأدب وسيلة مغايرة الغائية، حيث
تتراجع عنده أهمية النسج والتكثيف الجماليين لعمله، لصالح الحمولة
الدلالية التي يكتنزها، فمضمون الرسالة التي يود إيصالها أسبق على الرسالة
نفسها، إن الأهم عند الأديب الملتزم أن يغير من أفكار قارئه أو يكرس لديه
تصورا معينا.
وقد نشأت نظرية الالتزام منذ لينين حين قال بأن" الفن
ينبغي أن يكون أداة للعمل السياسي" وتكرست مع أندري جدانوف الذي شدد بأن
على الكتاب أن يلتزموا بوعي التقدمية والخط الحزبي، وهي وظيفة كان يعسر
على الكتاب الخروج عنها، فصارت بمثابة العقيدة التي تنبع منها قداسة مؤسسة
على مرجعية ترى الأدب خادما مهما للوصول إلى الشيوعية وحمايتها، خاصة حين
ألقى جدانوف الكلمة الرئيسية في مؤتمر 1934 والتي ذكّر فيها الكتاب بأن
ستالين دعاهم إلى يكونوا مهندسي الروح الإنساني، بما تعنيه الكلمة من
استنفار الكتاب مواهبهم لتأدية هذه الوظيفة، وهي الصادرة عن قائد سياسي
وعسكري، مجسد لسلطة سياسية ترى في عدم القيام بهذه الوظيفة خيانة كبرى،
وهذا التصور نجده في الأيوديولجيا البورجوازية التي لا تكف عن القول إن
الدال قرين ثابت لمدلول لا يفارقه.
إن الكاتب والمبدع في ظل هذا
السياق، يحول عمله الإبداعي إلى مضامين منثورة أو منظومة بطريقة مختلفة،
تروم تحقيق مخططات رجل السياسة وتخدمها، ولنقل إن وظيفته هنا تحولت إلى
المُسوّد écrivant الذي تحدث عنه بارط barthes والذي يشرح، يشهد، يعلّم،
والكلام عنده وسيلة لنقل الفكرة لا غير، فمشروع الاتصال عنده ساذج، كما
يؤكد بارط دائما، غايته نقل المعرفة فهو لا يقبل أن تنغلق رسالته على
نفسها لكي لا يكون بالإمكان أن نقرأ فيها بطريقة التمييز، غير ما يقصد: أي
إن الأدب هنا مرآة تواصلية تنقل الأفكار مع الحرص على ضبط القناة على
الغاية المرجعية الأولى التي يوصل الكاتب "أو المسوّد" مضامينها بكل
أمانة، حتى لا يؤول المضمون بطريقة مخالفة.
وحتى إن كانت هذه
النظرية قد شهدت بعد التعديل مع جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان، وثم
الاعتراف بضرورة التركيز النسبي على الرسالة نفسها، والاعتراف بالجانب
الجمالي في الأدب، فإن وظيفة الأديب لا تزال قائمة من خلال مفهوم الرؤية
للعالم"التي تعني مجموع الطموحات والمشاعر والأفكار التي تضم أعضاء مجموعة
"وفي الغالب طبقة اجتماعية " وتواجه بها مجموعات أخرى" ، بحيث استمر
الأديب في ممارسة وظيفته التوصيلية، وهي وظيفة يؤكدها غولدمان من خلال
تعريفه للأدب حين يقول:"إن الأدب بالنسبة إلينا شأن الفن والفلسفة ... هو
قبل كل شيء أصناف من الكلام، مخصصة للتعبير والاتصال لبعض المحتويات
الخصوصية، ونحن ننطلق من فرضية أن هذه المحتويات هي بالتدقيق رؤى للعالم".
مما يؤكد أن الأديب من هذا المنظور التوفيقي لا يزال مرتبطا بأداء وظيفة
اتصال خالصة وإن تسربلت ببعض الجمال.
إن تأدية هذه الوظيفة نبعت
عند بعض الكتاب من تصور للغة بوصفها آلية شفافة لنقل المعرفة وفهم الواقع،
وهو ما يعترض عليه بارط barthes حين يؤكد " أن أسوأ خطيئة يمكن أن يقترفها
الكتاب هي ادعاء أن اللغة وسيط طبيعي شفاف يستطيع من خلاله إدراك حقيقة أو
واقع "، ويمكن أن نضرب مثالا للتحول من فهم اللغة بوصفه أداة شفافة إلى
التدمير المطلق لبناءاتها المؤسساتية، ببرتولت بريخت الذي التزم سياسيا
حين قرأ ماركس فكتب مسرحيات تعليمية لإرشاد الطبقة العاملة،قبل أن يتمرد
كلية ويدعو إلى لا أريسطية المسرح، عبر الثورة على التقاليد المسرحية
القائلة بشمولية الفعل التراجيدي ووحدته، واتصاله الوجداني بالمتلقي الذي
تكون نتيجته التطهير "الكاترسيس".
-الفاعلية النقدية: التواصل المضاعف
هناك
تحولات عميقة مست علاقة الأدب بالنقد، فمن من دور الرقابة التي كان تمثلها
المؤسسة النقدية حين كانت تحكم على النصوص فتجيز بعضها وتمنع الأخرى، كما
هي حال الشعر حين كان يضرب للنابغة الذبياني خيمة يحكم فيها في أشعار
العرب، أو عند النقاد اللغويين الذين يتتبعون لحن الشعراء وسقطاتهم
اللغوية، وحراس عمود الشعر الذين يقفون عليه سدانا يمنعون كل مس بأبوابه
السبعة، وصولا إلى مفهوم التخييل الذي يضع العمل الأدبي ضمن علاقة تواصلية
مكتملة، حدثت تحولات نوعية في علاقة الأدب بقارئه ومتلقيه.
وصار
الناقد بدل وظيفة المنع والرقابة وتصفية النصوص وفق محددات لغوية، أو
سياسية، أو عقدية، متفاعلا مرنا مع النصوص والأعمال، حتى صار تعريف النقد
حديثا ينحو في كثير من الأحيان منحى إبداعيا، حين ينهل من لغة الإبداع،
فيبدو أشبه ما يكون بلغة إبداعية ثانية ممدة على نحو جميل لغة إبداعية
أولى، فحين ميز بارط بين علم الأدب والنقد الأدبي قال بأن" النقد ليس هو
العلم فهذا يعالج المعاني، لكن النقد ينتجها، لكنه يقع في مرتبة وسطى بين
العلم والقراءة"، ومنه فإن النقد لم يعد حكما على النصوص، بل مساعدا لها
في الإفصاح عما تختزنه وتكنتنزه لغتها.
إن النقد يشطر المعاني
ويقوم بعملية تشويه محسوبة بلغة ثانية تعوم على لغة النتاج " اللغة
الأولى"، إنه التواصل المضاعف الذي نقصده، لأنه محسوب ومزود بالآليات
المنهجية الضرورية، والقصدية الواضحة، وأنا مؤولة واعية.
ونجد إيكو
يتحدث عن نوعين من النصوص : مغلقة تحدد استجابة مسبقة عند القارئ ومفتوحة
تتطلب مشاركة القارئ لإنتاج المعنى. أي إن دور القارئ تحول هنا إلى دور
إنتاج المعنى غير المكتمل في النصوص، لأنه يرتق فراغات النص، ويملأها
بدلالات تختلف باختلاف القراء ومرجعياتهم، وكان هذا حال النظريات النقدية
ما بعد الحداثية المهتمة بالقارئ غالبيتها، ففولفغانغ آيزر يؤكد أن وظيفة
النقد ليست هي شرح النصوص ، وإنما البحث في الأثر الذي تخلفه في القارئ :
سواء أكان القارئ المضمر الذي يصنعه النص لنفسه والموجود في ذهن الكاتب،
أم القارئ الفعلي الذي يحمل أفق توقعات معينة يفسر من خلالها النصوص،
وينتج معانيها "ياوس".
فالنقد هنا صار بمثابة المرسل إليه الذي
يقوم بتغذية راجعة مع المؤلف"المرسل" عبر العمل الأدبي "القناة" : مؤولا
ومنوعا في الدلالة وقناة التواصل هي الكتابة، ومن الأمثلة الأخرى التي تدل
على دور النقد في جعل الكتاب منتشرا بين القراء من خلال الكتابة عنه
وإشهاره عن طريق الكتابة النقدية في المجلات والدوريات واللقاءات الفكرية
أو المقدمات التقريظية التي يكتبها النقاد للمبدعين.
ويكفي أن نذكر
في هذا السياق كيف أن أعمالا كتب لها الانتشار القوي بفضل مقدمات كتبها
نقاد أو مبدعين، أو قدموا آراءهم فيها ومنها أن القصيدة الشهيرة "الأرض
الخراب " ، كان قد قدمها ت س إليوت لإيزرا باوند، فغير أكثر من نصفها، حتى
استوت بتلك الطريقة، التي تدهش.
وعموما فإن علاقة الأدب بالالتزام
وبالفاعلية النقدية يمكن أن تطرح في أكثر من جانب، وأكثر من زاوية، فمن
الترجمة، مرورا بانتشار الكتاب، إلى العلاقة المتجددة بالنقد بمختلف
تياراته، مما يقف دليلا على أن الأدب يستمر في غوايته الآسرة، التي تفتن،
مادام يضّمن تلك اللفظة السحرية، التي تدفعنا دوما إلى أن نسهر جراها
ونختصم.